_ 1 _
عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة ، سبعة أعوام على وجه التحديد ، كنت خلالها أتعلم في أوربا . تعلمت الكثير ، وغاب عني الكثير ، ولكن تلك قصة أخرى . المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل . سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم ، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم ، فرحوا بي وضجوا حولي ، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي ، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس . ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زماناً في بلاد " تموت من البرد حيتانها " . تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب ، أول وهلة رأيتهم . لكن الضباب راح ، واستيقظت ثاني يوم وصولي ، في فراشي الذي أعرفه في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها وأرخيت أذني للريح . ذاك لعمري صوت أعرفه ، له في بلدنا وشوشة مرحة . صوت الريح وهي تمر بالنخل غيره وهي تمر بحقول القمح . وسمعت هديل القمري ، نظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا ، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير ، أنظر إلى جذعها القوي المعتدل ، وإلى عروقها الضاربة في الأرض ، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة . أحس أنني لست ريشة في مهب الريح ، ولكني مثل تلك النخلة ، مخلوق له أصل ، له جذور له هدف .
وجاءت أمي تحمل الشاي . فرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء . وجاءت أختي، وجاء أخواي ، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث ، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة . نعم ، الحياة طيبة ، والدنيا كحالها لم تتغير .
فجأة تذكرت وجها رأيته بين المستقبلين لم أعرفه . سألتهم عنه ، ووصفته لهم . رجل ربعة القامة ، في نحو الخمسين أو يزيد قليلا ، شعر رأسه كثيف مبيض ، ليست له لحية وشاربه أصغر قليلا من شوارب الرجال في البلد . رجل وسيم .
وقال أبي : " هذا مصطفى "
مصطفى من ؟ هل هو أحد المغتربين من أبناء البلد عاد ؟ وقال أبي أن مصطفى ليس من أهل البلد ، لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام ، أشترى مزرعة وبنى بيتاً وتزوج بنت محمود .. رجل في حاله ، لا يعلمون عنه الكثير .
لا أعلم تماما ماذا أثار فضولي ، لكنني تذكرت أنه يوم وصولي كان صامتاً . كل أحد سألني وسألته .وسألوني عن أوربا . هل الناس مثلنا أم يختلفون عنا ؟ المعيشة غالية أم رخيصة ؟ ماذا يفعل الناس في الشتاء ؟ يقولون أن النساء سافرات يرقصن علانية مع الرجال . وسألني ود الريس : "هل صحيح أنهم لا يتزوجون ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة بالحرام ؟ "
أسئلة كثيرة رددت عليها حسب علمي . دهشوا حين قلت لهم أن الأوربيين ، إذا استثنينا فوراق ضئيلة ، مثلنا تماماً ، يتزوجون ويربون أولادهم حسب التقاليد والأصول ، ولهم أخلاق حسنة ، وهم عموماً قوم طيبون .
وسألني محجوب . "هل بينهم مزارعون ؟"
وقلت له : " نعم بينهم مزارعون وبينهم كل شيء . منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم ، مثلنا تماماً " . وآثرت ألا أقول بقية ما خطر على بالي : " مثلنا تماماً. يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاما بعضها يصدق وبعضها يخيب . يخافون من المجهول ، وينشدون الحب ، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد.فيهم أقوياء ، وبينهم مستضعفون ، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق ، وبعضهم حرمته الحياة . ولكن الفروق تضيق وأغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء " . لم أقل لمحجوب هذا ، وليتني قلت ، فقد كان ذكياً . خفت ، من غروري ، ألا يفهم . وقالت بنت مجذوب ضاحكة : " خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء " .
لكن مصطفى لم يقل شيئاً . ظل يستمع في صمت ، يبتسم أحياناً ، ابتسامة أذكر الآن كانت غامضة ، مثل شخص يحدث نفسه .
نسيت مصطفى بعد ذلك ، فقد بدأت أعيد صلتي بالناس والأشياء في القرية . كنت سعيداً تلك الأيام ، كطفل يرى وجهه في المرآة لأول مرة . وكانت أمي لي بالمرصاد، تذكرني بمن مات ، لأذهب وأعزي ، وتذكرني بمن تزوج ، لأذهب وأهنئ . جبت البلد طولاً وعرضاً معزياً ومهنئاً . ويوماً ذهبت إلى مكاني الأثير ، عند جذع شجرة على ضفة النهر . كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة ، أرمي الحجارة في النهر وأحلم ، ويشرد خيالي في الأفق البعيد ؟ أسمع أنين السواقي على النهر ، وتصايح الناس في الحقول ، وخوار ثور أو نهيق حمار . كان الحظ يسعدني أحياناً ، فتمر الباخرة أمامي صاعدة أو نازلة . من مكاني تحت الشجرة ، رأيت البلد يتغير في بطء . راحت السواقي . وقامت على ضفة النيل طلمبات لضخ الماء ، كل مكنة تؤدي عمل مائة ساقية . ورأيت الضفة تتقهقر عاماً بعد عام أمام لطمات الماء ، وفي جانب آخر يتقهقر الماء أمامها . وكانت تخطر في ذهني أحياناً أفكار غريبة . كنت أفكر ، وأنا أرى الشاطئ يضيق في مكان ، ويتسع في مكان ، وأن ذلك شأن الحياة ، تعطي بيد وتأخـذ باليد الأخرى . لكن لعلني أدركت ذلك فيما بعد . أنا الآن ، على أي حال ، أدرك هذه الحكمة ، لكن بذهني فقط ، إذ أن عضلاتي تحت جلدي مرنة مطواعة وقلبي متفائل . أنني أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر . ثمة آفاق كثيرة لابد أن تُزار ، ثمة ثمار يجب أن تُقطف ، كتب كثيرة تقرأ ، وصفحات بيضاء في سجل العمر ، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جرئ . وأنظر إلى النهر بدأ ماؤه يربد بالطمي – لابد أن المطر هطـل في هضاب الحبشة – وإلى الرجال قاماتهم متكئة على المحاريث ، أو منحنية على المعاول . وتمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تقوم البيوت . أسمع طائراً يغرد ، أو كلباً ينبح ، أو صوت فأس في الحطب – وأحس بالاستقرار . وأحس أنني مهم ، وأنني مستمر ، ومتكامل . " لا .. لست أنا الحجر يلقى في الماء ، لكنني البذرة تبذر في الحقل " . ,اذهب إلى جدي ، فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً ، قبل خمسين عاماً لا بل ثمانين ، فيقوى إحساسي بالأمن . كنت أحب جدي ، ويبدو أنه كان يؤثرني . ولعل أحد أسباب صداقتي معه ، أنني كنت منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي ، وكان جدي يحب أن يحكي ، لما سافرت خفت أن يموت في غيبتي . وكنت حين يلم بي الحنين إلى أهلي ، أراه في منامي . قلت له ذلك ، فضحك وقال : " حدثني عراف وأنا شاب ، أنني إذا جاوزت عمر النبوة – يعني الستين – فأنني سأصل المائة " . وحسبنا عمره ، أنا وهو فوجدنا أنه بقي له نحو اثني عشر عاماً .
كان جدي يحدثني عن حاكم غاشم ، حكم ذلك الإقليم أيام الأتراك . ولست أعلم ما الذي دفع بمصطفى إلى ذهني ، لكني تذكرته بغتة ، فقلت أسأل عنه جدي ، فهو عليم بحسب كل أحد في البلد ونسبه ، بل بأحساب وأنساب مبعثرة قبلي وبحري ، أعلى النهـر وأسفله لكن جدي هز رأسه وقـال أنه لا يعلم عنه سوى أنه من نواحي الخرطوم ، وأنه جاء إلى البلد منذ نحو خمسة أعوام ، واشترى أرضاً تفرق وارثوها منها . ثم قبل أربعة أعوام زوجه محمود إحدى بناته . قلت لجدي : " أي بناته ؟ " فقال : " أظنها حسنة " . وهز جدي رأسه وقال : " تلك القبيلة . لايبـالون لمن يزوجون بناتهم " . لكنه أردف ، كأنه يعتذر ، أن مصطفى طول إقامته في البلد ، لم يبدو منه شيء منفر ، وأنه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام ، وأنه يسارع " بذراعه وقدحـه في الأفراح والأتراح " .. هكذا طريقة جدي في الكلام ..
بعد هذا بيومين ، كنت وحدي أقرأ وقت القيلولة . كانت أمي وأختي تلغط مع بعض النسوة في أقصى البيت ، وكان أبي نائماً ، وقد خرج أخواي لشأن ما ، فخلوت بنفسي . سمعت نحنحة خارج البيت ، فقمت ، فإذا هو مصطفى ، يحمل بطيخة كبيرة ، وزنبيلاً ممـلوءاً برتقالاً . ولعلـه رأي الدهشة على وجهي ، فقال : " أرجو ألا أكون أيقظتك من نوم . ولكنني قلت أجيئك بعينة من ثمر الحقل ، تذرفه . كذلك أحب أن أتعرف إليك . وقت الظهيرة ليس وقت زيارة . أعذرني " .
لم يغب عني أدبه الجم ، فأهل بلدنا لا يبـالون بعبارات المجاملة . يدخلون في الموضوع دفعة واحدة ، يزورونك ظهراً كان أو عصراً ، لا يهمهم أن يقدموا المعاذير . رددت الود بالود ، ثم جيء بالشاي .
دقتت النظر في وجهـه ، وهو مطرق . أنه رجل وسيم دون شك ، جبهته عريضة رحبة ، وحاجباه متباعدان ، يقومان أهـلة فوق رقبته وكتفيه ، وأنفه حاد منخاراه مليئان بالشعر . ولما رفع وجهه أثناء الحديث ، نظرت إلى فمه وعينيه ، فأحسست بالمزيج الغريب من القـوة والضعف في وجه الرجل . كان فمه رخواً ، وكانت عيناه ناعستين ، تجعلان وجهه أقرب إلى الجمال منه إلى الوسامة . ويحدث بهـدوء ، لكن صوته واضح قاطع . حين يسكن وجهه يقوى . وحين يضحك يغلب الضعف على القوة . ونظرت إلى ذراعيه ، فكانتا قويتين ، عروقهما نافرة ، لكن أصابعه كانت طويلة رشيقة ، حين يصل النظر إليهما بعد تأمل الذراع واليد ، تحس بغتة كأنك انحدرت من الجبل إلى الوادي .
قلت أدعه يتحدث ، فهو لم يجيء إلىّ في حمأة القيظ ، إلا ليقول لي شيئاً . لعله من ناحية أخرى جاء بوازع من حسن النية . لكنه قطع علي حدسي . فقال : " لعلك الوحيد من أهل البلد ، الذي لم أسعد بالتعرف عليه من قبل " . لمـاذا لا يترك هذا الأدب ، ونحن في بلد إذا غضب فيها الرجال ، قال بعضهم لبعض : يا ابن الكلب .
" سمعت كثيراً عنك من أهلك وأصدقائك " – لا غـرو ، فقد كنت أعد نفسي زينة الشباب في البلد .
" قالوا أنـك نلت شهادة كبيرة – ماذا تسمونها ؟ الدكتوراه ؟ " يقول لي ماذا تسمونها ؟ لم يعجبني ذلك ، فقد كنت أحسب أن الملايين العشرة في القطر كلهم سمعوا بانتصاري .
" يقولون أنك لامع منذ صغرك " .
" العفو " – هكذا قلت ، لكنني ، والحق يقال ، كنت تلك الأيام مزهواً بنفسي ، حسن الظن بها .
" دكتوراه , هذا شيء كبير " .
فقلت له ، وأنا أتصنع التواضع ، أن الأمر لا يعدو أنني قضيت ثلاثة أعوام ، أنقب في حياة شاعر مغمور من شعراء الانكليز . واغتظت ، لا أخفي عليكم أنني اغتظت، حين ضحك الرجل ملء وجهه ، وقال :
" نحن هنا لا حاجة لنـا بالشعر . لو انك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان خيراً " .
انظر كيف يقول " نحن " ولا يشملني بها ، مع العلم بأن البلد بلدي ، وهو – لا أنا – الغريب .
لكنه ابتسم في وجهي برقـة ، ولاحظـت كيف طغى الضعف في وجهه على القوة ، وكيف أن عينيه في الواقع جميلتان كعيني أنثى ، وقال :
" لكن نحن مزارعون نفكر فيما يعنينا ، إنما العلم ، مهما كان ، ضروري لرفعة الوطن".
صمت برهة ، فازدحمت أسئلة كثيرة في رأسي : من أين هو ؟ ولماذا استقر في هذا البلد وما هي قصته ؟ لكنني آثرت التريث ، وأسعفني هو فقال : " الحياة في هذا البلد هينة خيرة . الناس طيبون عشرتهم سهلة " .
فقلت له : " أنهم يذكرونك بالخير . جدي يقول أنك رجل فاضل " .
ضحك حينئذ ، ربما لأنه تذكر مقابلة له مع جدي ، وبدأ كأنه سر من قولي ، وقال :
" جدك .. ذاك رجل . ذاك رجل .. تسعون عاماً وقامته منتصبة ، ونظره حاد ، وكل سن في فمه . يقفز فوق الحمار خفيفاً ، ويمشي من بيته للمسجد في الفجـر . هاه ذاك رجل " .
كان مخلصاً وهو يقول هذا . ولم لا ؟ وجدي ، في واقـع الأمـر أعجـوبة .
وخفت أن يفلت الرجل قبل أن أعلم عنه شيئاً – إلى هذا الحد بلغ فضولي – فجرى السؤال على لساني قبل أن أفكر : " هل صحيح أنك من الخـرطوم ؟ " .
وفوجئ قليلاً وخيل لي أن ما بين عينيه قد تعكـر ، لكنه بسـرعة ومهـارة عـاد إلى هـدوئه، قال لي وهو يتعمد أن يبتسم : " من ضواحي الخرطوم في الواقع . قل الخرطوم".
وصمت برهة قصيرة ، وكأنه يناقش بينه وبين نفسه ، هل يصمت أم يعطيني المزيد ، ثم رأيت الطيف الساحر يحوم حول عينيه ، تماماً كما رأيته أول يوم ، وقال وهو ينظر إليّ وجهاً قبالة وجه : " كنت في الخرطوم أعمل في التجـارة . ثم لأسباب عديدة ، قررت أن أتحول للزراعة . كنت طول حياتي أشتاق للاستقرار في هذا الجزء من القطر ، لا أعلم السبب . وركبت الباخرة ، وأنا لا أعلم وجهتي . ولما رست في هذا البلد ، أعجبتني هيئتها . وهجس هاجس في قلبي : هذا هو المكان . وهكذا كان ، كما ترى . لم يخب ظني في البلد ولا أهله ؟ . ثم صمت ، وقام قائلاً أنه ذاهب للحقل ، ودعاني للعشاء في بيته بعد يومين .
ولما أوصلته للباب ، قال لي وهو يودعني ، الطيف الساحر أكثر وضوحاً حول عينيه :
" جدك يعرف السر " .
ولم يمهلني حتى أسأله : " أي سر يعرفه جدي ؟ جدي لست له أسرار " . ولكنه مضى مبتعداً بخطوات نشيطة متحفـزة ، رأسه يميل قليلاً إلى اليسار .
ذهبت للعشاء فوجدت محجوبا ، والعمدة ، وسعيد التاجر ، وأبي . تعشينا دون أن يقول مصطفى شيئاً يثير الاهتمام . كان كعادته يسمع أكثر مما يتكلم . كنت ، حين يخفت الحديث وحين أجد أنه لا يعنيني كثيراً ، أتلفت حولي كأنني أحاول أن أجد في غرف البيت وجدرانه الجواب على الأسئلة التي تدور في رأسي . لكنه كان بيتاً عادياً ، ليس أحسن ولا أسوأ من بيوت الميسورين في البلد . منقسم إلى جزءين كبقية البيوت ، جزء للنساء ، والقسم الذي فيه "الديوان" للرجال ورأيت إلى يمين الديوان غرفة من الطوب الأحمر ، مستطيلة الشكل ، ذات نوافذ خضراء . سقفها لم يكن مسطحاً كالعادة ولكنه كان مثلثا كظهر الثور .
قمنا أنا ومحجوب وتركنا الباقين . وفي الطريق سألت محجوبا عن مصطفى . لم يخبرني بجديد لكنه قال : " مصطفى رجل عميق " .
قضيت في البلد شهرين ، كنت خلالهما سعيداً . وقد جمعتني الصدف بمصطفى عدة مرات . مرة دعيت لحضور اجتماع لجنة المشروع الزراعي . دعاني محجوب ، رئيس اللجنة وقد كان صديقي ، نشأنا معاً منذ طفولتنا . دخلت عليهم وكان مصطفى بينهم، وكانوا يبحثون أمراً يتعلق بتوزيع الماء على الحقول . ويبدو أن بعض الناس ، ومنهم من هو عضو في اللجنة ، كانوا يفتحون الماء في حقولهم قبل الموعد المحدد لهم . وأحتد النقاش وتصايحوا بعضهم على بعض وفجأة رأيت مصطفى يهب واقفاً . هدأ اللغط واستمعوا إليه باحترام زائد . وقال مصطفى أن الخضوع للنظام في المشروع أمر مهم وإلا اختلطت الأمور وسادت الفوضى ، وأن على أعضاء اللجنة خاصة أن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم ، فإذا خالفوا القانون عوقبوا كبقية الناس . ولما فرغ من كلامه هز أغلب أعضاء اللجنة رؤوسهم استحسانا ، وصمت من عناهم الكلام . لم يكن ثمة أدنى شك في أن الرجل من عجينة أخرى ، وأنه أحقهم برئاسة اللجنة ، لكن ربما لأنه ليس من أهل البلد لم ينتخبوه .
***
بعد هذا بنحو أسبوع ، حدث شيء أذهلني . دعاني محجوب لمجلس شراب . وبينما نحن نسمر جاء مصطفى يكلم محجوباً في شأن من شؤون المشروع .دعاه محجوب أن يجلس فاعتذر ، ولكن محجوبا حلف عليه بالطلاق . مرة أخرى لاحظت سحابة التبرم تنعقد ما بين عينيه ، ولكنه جلس ، وعاد بسرعة إلى هدوئه الطبيعي . وناوله محجوب كأساً من الشراب ، فتردد برهة ثم أمسك بها ووضعها إلى جانبه دون أن يشرب منها . ومرة أخرى أقسم محجوب ، فشرب مصطفى . كنت أعرف محجوباً متهوراً فخطر لي أن أمنعه عن مضايقة الرجل ، إذ من الواضح أنه غير راغب في الجلسة أصلا . لكن خاطراً آخر هجس في ذهني ، فتوقفت . شرب مصطفى الكأس الأولى باشمئزاز واضح ، شربها بسرعة ، كأنها دواء مقيت . لكنه لما وصل إلى الكأس الثالثة ، أخذ يبطئ ويمص الشراب ، على عينيه وفمه . وشرب مصطفى كأساً رابعة ، وكأساً خامسة . لم يعد في حاجة إلى تشجيع ، لكن محجوباً كان يحلف بالطلاق على أي حال . دفن مصطفى قامته في المقعد ، ومدد رجليه . وأمسك الكأس بكلتا يديه ، وسرحت عيناه ، كما خيل لي ، في آفاق بعيدة ، ثم ، فجأة ، سمعته يتلو شعراً إنكليزياً ، بصوت واضح ونطق سليم . قرأ قصيدة وجدتها فيما بعد بين قصائد عن الحرب العالمية الأولى :
" هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين ،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء ،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجئ بهم القطار ،
إلى أحضان هؤلاء النسوة ، ذوات الوجوه الميتة ،
ينتظرن الضائعين ، الذين يرقدون موتى في الخندق
والحاجز والطين في ظلام الليل .
هذه محطة تشارنغ كروس . الساعة جاوزت الواحدة .
ثمة ضوء ضئيل
ثمة ألم عظيم " .
بعد ذلك تأوه ، وهو لا يزال ممسكاً بالكأس بين يديه ، وعيناه سارحتان ، في آفاق داخل نفسه .
أقول لكم ، لو أن عفريتاً انشقت عنه الأرض فجأة ، ووقف أمامي ، عيناه تقدحان اللهب ، لما زعرت أكثر مما ذعرت . وخامرني ، بغتة ، شعور فظيع ، شيء مثل الكابوس ، كأننا نحن الرجال المجتمعين في تلك الغرفة ، لم نكن حقيقة ، إنما وهماً من الأوهام . وقفزت ، ووقفت فوق الرجل ، صحت فيه : " ما هذا الذي تقول ؟ ما هذا الذي تقول ؟ " نظر إلى نظرة جامدة ، لا أدري كيف أصفها ، لكن لعلها كانت خليطاً من الأحقاد والضيق . ودفعني بعنف بيده ، ثم هب واقفاً ، وخرج من الغرفة في خطوات ثابتة، مرفوع الرأس ، كأنه شيء ميكانيكي . كان محجوب مشغولاً ، يضحك مع بقية من في المجلس ، فلم ينبه لما حدث .
ذهبت إليه ثاني يوم في حقله ، فوجدته مكباً يحفر الأرض حول شجرة ليمون . كان مرتدياً سروالاً من الكاكي قصيراً متسخاً ، وقميصاً من الدبلان يصل إلى ركبتيه ، وعلى وجهه بقع من الطين . حياني بأدبه الجم كعادته وقال لي : " بعض فروع هذه الشجرة تثمر ليموناً ، وبعضها يثمر برتقالاً " . فقلت له بالانجليزي ، عمداً : " شيء مدهش " . فنظر إلي مستغرباً وقال : " ماذا ؟ " فأعدت الجملة . ضحك وقال لي : " هل أنستك إقامتك الطويلة في انجلترا العربي ، أم تحسب أننا خواجات ؟ " قلت له : " لكنك ليلة أمس قرأت الشعر باللغة الإنجليزية " .
غاظني صمته . فقلت له : من الواضح أنك شخص آخر غير ما تزعم . من الخير أن تقول لي الحقيقة " . لم يبد عليه أي تأثر بالتهديد الذي ضمنته كلامي ، ومضى يحفر حـول الشجرة . ولما فرع من حفره ، قال وهو ينفض الطين عن يديه دون أن ينظر إلى :
" لا أدري ماذا قلت وماذا فعلت في الليلة الماضية . السكران لا يؤاخذ على كلامه . وإذا كنت قلت شيئاً ، فهو كخترفة النائم ، أو هذيان المحموم ليست له قيمة . أنا هو هذا الشخص الذي أمامك ، كما يعرفه كل أحد في البلد . لست خلاف ذلك ، وليس عندي شيء أخفيه " .
ذهبت إلى البيت ، ورأسي يضج بالأفكار . وأنا واثق أن وراء " مصطفى " قصة ، أو شيئاً لا يود أن يبوح به . هل خانتي أذناي ليلة البارحة ؟ الشعر الانجليزي الذي قرأه ، كان حقيقة . لم أكن سكران ، ولم أكن نائماً ، وصوته وهو جالس في ذلك المقعد ، ممداً رجليه ، ممسكاً بالكأس بكلتا يديه ، صورة واضحة لا مراء فيها . هل أحدث أبي ؟ هل أقول لمحجوب ؟ لعل الرجل قتل أحداً في مكان ما وفر من السجن ؟ لعله.. لكن أية أسرار في هذا البلد ؟ لعله فقد ذاكرته ؟ يقال أن بعض الناس يصابون بالامنيزيا أثر حادث . وأخيرا قررت أن أمهله يومين أو ثلاثة ، فإذا لم يأتيني بالحقيقة ، كان لي معه شأن آخر .
لم يطل انتظاري ، فقد جاءني مصطفى عشية ذلك اليوم . وجد أبي وأخوي أيضاً ، فقال أنه يريد أن يحدثني على انفراد . قمت معه ، فقال لي : " هل تحضر إلى بيتي مساء غد ؟ أريد أن أتحدث إليك " . ولما عدت سألني أبي : ماذا يريد مصطفى ؟ فقلت له أنه يريدني أن أفسر له عقداً بملكية أرض له في الخرطوم .
رحت إليه عند المغيب ، فوجدته وحده ، أمامه آنية شاي . عرض علي الشاي فأبيت ، فقد كنت في الحقيقة أتعجل سماع القصة . لابد أنه قرر أن يقول الحقيقة . أعطاني سيجارة فقبلتها .
تفرست في وجهه وهو ينفث الدخان ببطء ، فبدأ هادئاً قوياً . أبعدت الفكرة ، وأنا أنظر في وجهه ، أن يكون قاتلاً . استعمال العنف يترك أثراً في الوجه لا تخطئه العين .
أما أنه فقد ذاكرته ، فهذا محتمل . وأخيرا بدأ مصطفى يتحدث ، ورأيت الطيف الساخر حول عينيه أوضح من أي وقت رأيته فيه . شيء محسوس ، كأنه لمع البرق .
" سأقول لك كلاماً لم أقله لأحد من قبل . لم أجد سبباً لذلك قبل الآن . قررت هذا حتى لا يجمح خيالك ، وأنت درست الشعر " . ضحك حتى يخفف حدة الاحتقار التي بدت في صوته وهو يقول هذا " .
" خفت أن تذهب وتتحدث إلى الآخرين . تقول لهم أنني لست الرجل الذي أزعم . فيحدث . يحدث بعض الحرج ، لي ولهم . لذا فإن لي عندك رجاء واحداً . أن تعدني بشرفك ، وأن تقسم لي بأنك لن تبوح لمخلوق بشيء مما سأحدثك به الليلة " . ونظر إليّ نظرة مركزة . فقلت له : " هذا يعتمد على ما ستقوله لي . كيف أعدك وأنا لا أعلم عنك شيئاً ؟ " .
فقال : " أنني أقسم لك بأن شيئاً مما سأقوله لك لن يؤثر على وجودي في هذا البلد . أنني رجل في كامل عقلي ، مسالم ، لا أحب لهذا البلد وأهله إلا الخير " .
لا أكتمك أنني ترددت . لكن اللحظة كانت مشحونة بالاحتمالات ، وكان فضولي عارماً ليس له حد . خلاصة القول أنني وعدت وأقسمت ، فدفع مصطفى إلى برزمة أوراق وأومأ لي أن أنظر فيها فتحت ورقة فإذا هي وثيقة ميلاده . مصطفى سعيد ، من مواليد الخرطوم ، 16 أغسطس عام 1898 ... الأب متوفي ، الأم فاطمة عبد الصادق ، فتحت بعد ذلك جواز سفره ، الاسم ، المولد ، البلد ، كما في شهادة الميلاد . المهنة "طالب " . تاريخ صدور الجواز عام 1916 في القاهرة وجدد في لندن عام 1926 . كان ثمة جواز سفر آخر ، انكليزي ، صدر في لندن عام 1929 . قلبت صفحاته فإذا أختام كثيرة ، فرنسية وألمانية وصينية ودنماركية . كل هذا شحذ خيالي بشكل لا يوصف ، فلم أستطع المضي في تقليب صفحات جواز السفر ، وأنصرف ذهني عن بقية الأوراق . لابد أن وجهي كان مشحوناً بالترقب حين نظرت إليه . مضى مصطفى ينفث في دخان سيجارته برهة ، ثم قال :